ويستحب للصائم أن يكثر من فعل الخير في شهر رمضان، وذلك بأن يطعم الفقراء والمساكين، وأن يبذل الصدقات، ويعطي المحتاجين، وأن ينفق في سبل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
قال الشافعي رحمه الله: أحبُّ للرجلِ الزيادةَ بالجودِ في شهرِ رمضانَ اقتداءً برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولحاجةِ الناسِ فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"؛ (أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار: 9063) (انظر لطائف المعارف: ص 178).
وقال الإمام الماوردي رحمه الله: "على الناس أن يكثروا من الجود والإفضال في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح من بعده، ولأنه شهر شريف قد اشتغل الناس فيه بصومهم عن طلب مكاسبهم، ويستحب للرجل أن يوسع فيه على عياله، ويُحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه، ولا سيما في العشر الأواخر منه"؛ (انظر الحاوي الكبير للماوردي:3/479).
وقال النووي رحمه الله في "شرحه على صحيح مسلم: 15 /69": "وفي هذا الحديث فوائد، منها: بيان عظم جوده صلى الله عليه وسلم، ومنها: استحباب إكثار الجود في رمضان، ومنها: زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها: استحباب مدارسة القرآن"؛ اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح 4/ 139": قال الزين بن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير وبين أجودية الريح المرسلة - أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة؛ أي فيعم خيره وبرُّه من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغني والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة".
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في لطائف المعارف: 166– 169": "وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة؛ منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه، ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم؛ كما في حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا"؛ (أخرجه الترمذي).
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءُ"؛ (أخرجه البخاري ومسلم)، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة؛ كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا"، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ"؛ (أخرجه الترمذي).
وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث، والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل، قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصَبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟"، قَالَ أَبُو بَكْر رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"؛ (أخرجه مسلم).
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خللٌ أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما نبغي التحفظ منه؛ كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والصيام والصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان ومحظورات الإحرام، وكفارة الوطء في رمضان، ولهذا كان الله تعالى قد خيَّر المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين، ثم نسخ ذلك وبَقِيَ الإطعام لمن يَعجِز عن الصيام لكِبَره، ومن أخَّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، فإنه يقضيه ويضم إليه إطعامُ مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء، كما أفتى به الصحابة، وكذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل والمرضع على قول طائفة من العلماء.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تفكير الخطايا واتِّقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصًا إن ضم إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ"؛ (أخرجه البخاري ومسلم).
فتصدق أخي الحبيب ولو بالقليل، فالقليل ستجده عند الله يوم القيامة كثير، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ[1] مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلا الطَّيِّبَ, وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ[2] حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ".